بحث في الموقع

https://3aleem1.blogspot.com.eg/

أخر الأخبار

Printfriendly

السبت، 22 يناير 2022

أحمد عبدالعليم يكتب: ضد التعليم النمطي (1)

 


كان أفلاطون فيلسوفا مثاليا، يؤمن بأن الفكرة تسبق المادة، وتسيطر عليها، وبالتالي فإن "الصورة/المثال" هي جوهر الشيء ومناط كماله، كما كان أيضا كارها للنظام الديموقراطي، ناقما عليه، وازداد حنقا وكراهية له، بعد أن أودى بحياة معلمه، وصديقه سقراط (في المحاكمة الشهيرة) الذي حكم عليه (المجلس الشعبي) وفقا لنظام أثينا الديموقراطي،  بالإعدام بطريقة قاسية، أن يتجرع السم بيده.

أراد أفلاطون أن يتجنب الشرور التي تملأ العالم، وأن يصل إلى الكمال في المجتمع الإنساني، فشرع في وضع نظاما اجتماعيا/سياسيا يمكنه أن يحقق له ما أراد، ووضع أفكاره في كتاب أسماه "الجمهورية"، وهو كتاب شهير مثلما هو مؤثر، بل ربما فاق تأثيره حجم شهرته، ذلك لأن أفلاطون حينما بدأ في التفكير في إنشاء "مدينته الفاضلة" لم يجد أهم من تنشئة الأطفال وسيلة لتحقيق هدفه المنشود، وبالتالي بدأ في وضع نظام صارم لتربية، وتعليم الأطفال ليصبحوا مواطني مدينته/جمهوريته الفاضلة.

ومثل كل فيلسوف مثالي، كان يفترض أفلاطون عددا من الأفكار المسبقة، التي يراها بديهية ولا تحتاج إلى دليل أو إثبات، فهي واضحة بذاتها، بائنة دون إثبات، وبالتالي تصبح الأساس الأولي لأي بناء يرغب في تشييده، ومن بين هذه الأفكار/الفرضيات تأتي الفرضية الأولى والرئيسة، التي تؤكد على أن العالم المادي بكل تفاصيله ليس إلا صورة ناقصة، وانعكاس باهت للعالم المثالي، وأن الرغبة في الكمال عند "الإنسان" تعني التوق، والسعي إلى إدراك العالم المثالي، ومحاكاته، والتشبه به.

وهذه الفرضية تستدعي عددا من النتائج الهامة، وربما يكون أهمها أن العقل ومن ثم التحصيل المعرفي هو أهم ما يميز الإنسان عن الكائنات كافة، وبالتالي هو الذي يحدد مكانة الفرد في المجتمع، وما عداه من قدرات يأتي في المرتبة الثانية، ثم الثالثة وهكذا، وهذا الأمر جعله يقسم امجتمع إلى ثلاث طبقات أساسية، يأتي على رأسها طبقة الفلاسفة/المفكرين ولهؤلاء سيعهد أفلاطون حكم مدينته، وللتدليل على هذا قال قولته الشهيرة: إلى أن يصبح الملوك فلاسفة أو الفلاسفة ملوكا، لن يبرأ العالم من الشرور".

أما المرتبة الثانية فهي لقوي البنية، صحيح الجسم، مفتول العضلات، وعهد إليهم أفلاطون بحراسة وحماية مدينته الفاضلة، وفي المرتبة الثالثة والأخيرة يأتي المواطنون الأقل حظا في العقل، وسعة في القوة، وقلة في الصحة ليصبحوا عمال المدينة وصناعها.

هذا الترتيب الطبقي الثلاثي الذي رأى أفلاطون أنه يحقق الكمال لمدينته، فرض على أفلاطون، أو دفع أفلاطون إلى أن ينشيء نظاما تعليميا صارما، قادرا على إعداد سكان مدينته من الأطفال لتولي أقدارهم المستقبلية، وفقا لأقدارهم المحتومة، وكان النظام التعليمي ذو المراحل الثلاثة التي بنت عليه أوروبا، ومن بعدها معظم بلدان العالم نظامها التعليمي (الابتدائي-الإعدادي-الثانوي)، وفي نظام أفلاطون كما في النظام الأوروبي تمثل كل مرحلة لاحقة تصفية وانتقاء للمرحلة السابقة، حتى يستطيع النظام أن يفرز طبقاته بسهولة ويسر، ولكن وفقا لمنظومة تقييم صارمة.

يقول أحدم "كل البشر متساوون، ولكن بعض البشر متساوون أكثر"، وهي سخرية سوداء على إدعاءات المجتمعات الأوروبية بتحقيقها لمبدأ المساواة، هذا المبدأ الذي رفضه أفلاطون جملة وتفصيلا، في نظامه الاجتماعي، والتعليمي، فهو يضع كل نمط من الأنماط الثلاث في وضعه وفقا لتراتبية لا يمكن كسرها، يأتي على رأسهم "الفلاسفة"، ثم "الحراس"، ثم "العمال". وهو مايستدعي تصفية وانتقاء مرحلي للطلاب الملتحقين في كل مرحلة من المراحل (وبنظرة عابرة لأعداد الملتحقين بالمرحلة الابتدائية، ثم الإعدادية، ثم الثانوية، سيكتشف المرء الأمر بسهولة ويسر).

إن فرضيات أفلاطون تضع التحصيل الدراسي في مقدمة/ وعلى رأس أسباب تميز الفرد بين أقرانه، ثم تأتي المهارات الرياضية والقتالية في المرتبة الثانية، وأخيرا أصحاب المهارات اليدوية/العملية في المرتبة الثالثة، وهو تنظيم قد أكد على فشله تباعا، منذ أفلاطون الذي تراجع عنه، وانتقده بشدة في كتابه الثاني والأقل شهرة "القوانين"، ومازال هذا النظام يثبت فشله يوما بعد يوم، ولكن مازال هناك اتجاه عام يسير في نفس الطريق الذي أودى إلى الفشل، مؤمنا بنفس الأفكار التي ثبت فشلها، مؤكدا على نفس القيم التي تهاوت لصالح قيم أكثر إنسانية ورحابة، ولصالح أفكار تخدم البشرية جميعها دون تمييز، وتتأسس في صميمها على العلم الحديث.

يأتي في مقدمة هذه الأفكار والمفاهيم قضية أساسية ومعبرة تؤكد على "تفرد الإنسان"، فلا يوجد فرد يشبه الآخر، ولكل منهم مناط تميزه، فالتميز ليس في التحصيل الدراسي فحسب، بل هناك قدرات ومهارات عديدة يمكنها أن تضع الفرد في مصاف المبدعين، والذكاء لا يمكن قياسه معرفيا فحسب، بل هناك ذكاءات متعددة، وهي المسألة التي دفعت بعضا من فلاسفة وعلماء التنشئة إلى إعادة النظر في أساليب وأنظمة التعليم، وطرحت مبادرات وطرق للتربية والتعليم تتوافق مع هذا المبدأ، وتسمح للفرد بالوصول إلى أقصى قدراته، وتفرض على المعلم وعلى النظام المدرسي أساليبا وقيما منفتحة، تعطي الطالب مساحات من حرية البحث، والتفكير، والإبداع، ليكتشف ذاته من ناحية، وليطور من قدراته من ناحية أخرى.

  • تعليقات المدونة
  • تعليقات الفيس بوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Item Reviewed: أحمد عبدالعليم يكتب: ضد التعليم النمطي (1) Description: Rating: 5 Reviewed By: 3aleem
Scroll to Top