بحث في الموقع

https://3aleem1.blogspot.com.eg/

أخر الأخبار

Printfriendly

الثلاثاء، 4 مارس 2014

الديموقراطية .. والتعليم ... رؤية ثقافية ... أحمد عبدالعليم


مقدمة :
كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول الإصلاح السياسي والتحول الديموقراطي في مصر والمنطقة العربية ، وفي هذا السيجال (النخبوي) ؛ قد تم التعبيرعن الديموقراطية بوصفها حزمة من الإجراءات السياسية الفوقية ، سواء فيما يتعلق برؤية النظام الحاكم ، أو الأطياف المعارضة ، حيث اختزلت الديموقراطية في هذه الحزمة من الإجراءات التي تنادي بها المعارضة لإحداث التحول الديوقراطي المنشود ، بينما يسوف النظام الحاكم، ويختلق الأعذار ، ويضع الأولويات (التي تناسبه) ، للوصول إلى هذا التحول ، ولكنهما لا يختلفان حول طبيعة وشكل مجموعة الإجراءات ، بل حول المدى الذي ينبغي أن تتحقق فيه ، من حيث الوقت والحجم وآليات تنفيذ هذه الإجراءات.
تؤكد الرؤية العامة ، أن الديوقراطية في أبسط معانيها ؛ تعني حكم المواطنين ( الشعب ) لأنفسهم، سواء بطريقة مباشرة ( مجتمع دولة المدينة في اليونان القديمة )، أو بطريقة غير مباشرة ( الأشكال المختلفة للديموقراطيات المعاصرة )، وصولا إلى تعقيداتها السياسية، عبر صياغة الدستور، والسماح بالتعددية الحزبية، ومرورا بالأشكال النيابية المختلفة ، والانتخابات، والتمثيل النيابي .. الخ، والتي تطرح حولها كثير من الجدل في البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء، ومدى ملاءمتها للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتجذرة في عمق  كل مجتمع على حده ، وهو الأمر الذي يعطي فرصا هائلة للنظم الحاكمة للتسويف ؛ وإضاعة الوقت من جانب، أو على الأقل ؛ القيام بإصلاحات صورية وشكلية ؛ من شأنها تفريغ القضية من محتواها من جانب آخر ، وربما تتواطأ المعارضة ـ عن سوء طوية ـ من أجل مكاسب شخصية وقتية ، أو عن رغبة ملحة وراهنة في تحريك المياه الراكدة ، بعد عقود من الركود السياسي والاجتماعي التي أصابت الحياة في مجتمعاتهم ، وربما تكون رغبة مشروعة لهؤلاء وهؤلاء ، ولكن في كلا الحالين يخلو المشهد السياسي من أصحاب المصلحة المباشرة، من المواطنين ( الشعب )، من هؤلاء الذين تتحدث عنهم الأطراف جميعها، حكومات ومعارضة ، وهو ما يجعلنا نعيد النظر في المفهوم العام لهذا المصطلح المراوغ (الديموقراطية).
وتطرح هذه الدراسة رؤية مغايرة –لا نقول معاكسة- لما يطرحه الجانبان ، تقوم في جوهرها على النظر إلى الديموقراطية عبر رؤية ثقافية / اجتماعية ، وتنطلق من فرض أولي مفاده أن التنشئة الاجتماعية من خلال آلياتها المختلفة هي العامل المؤثر في عملية التحول الديموقراطي بكافة أبعاده ، ومن ثم ينبغي الانطلاق من هذه النقطة نحو المطالبة بتحول ديموقراطي في العملية التعليمية بأبعادها المختلفة من ناحية الشكل والمضمون ، بغرض الوصول إلى مجتمع قادر على صياغة بنيته السياسية الفوقية المساندة لمصالحه ، ومن ثم ينتج النخبة القادرة على تحقيق  تطلعاته المشروعة ، استنادا إلى سلطة (الشعب) ، وفقا للمفهوم الديموقراطي الذي تطرحه الأطراف جميعها ، ووفقا لبنية تحتية تؤكده وتؤازره .

ومن الضروري الإشارة إلى أن هذه الرؤية لا تغفل في مضمونها الواقع الاقتصادي والاجتماعي المتردي في مصر ؛ بل ترتكز عليه، وتضعه في خلفية طرحها، مؤكدة على أهمية التنمية وشموليتها ؛ وفقا لمفاهيم التنمية الحديثة ، التي ترى الإنسان هوالعنصر الرئيسي في هذه العملية، ومن ثم فإن بناء الإنسان وتنمية قدراته هو جزء أولي في بناء المجتمع، وأن أية جهود تبذل بغرض التطور الاقتصادي دون الرجوع لهذه الفرضية مؤداها الفشل لا محالة ، فالإنسان هو الفاعل الرئيسي الذي يرجح احتمالات نجاح أية عملية تنموية ، مثلما يضع بذور إخفاقها ، وهو ما حدث على مدار عقود طويلة ، كان المواطن المصري بمعزل عن مشروعات وبرامج التنمية التي تطرحها وتنفذها الدولة ؛ متناسية عن قصد أو عن غير قصد دور الإنسان ، ومؤكدة على العامل الاقتصادي دون غيره.
وتتأسس الديوقراطية في جوهرها على مكون رئيسي لا يمكن تجاهله أو الحد من قيمته وهو : المواطن الحر ، ويتأسس مفهوم الحرية على هذا المستوى وفقا لمجموعة من العناصر الأساسية من بينها: المشاركة ، منع التمييز ، القدرة على التعبير عن الرأي ، تكافؤ الفرص ...الخ  ، ولكي يمارس المواطن حريته في مجتمع ديموقراطي ينبغي أن يتمتع بكافة الحقوق التي تمكنه من ناحية ؛ وتؤهله من ناحية أخرى ؛ لممارسة هذه الحقوق،  وهو الأمر الذي ينبغي التركيز عليه في هذا الصدد.

التعليم: البعد الشكلي ...
تشمل الديموقراطية ضمن معانيها كونها أسلوب سلمي لإدارة الصراع بين القوى والمصالح التي –ربما- تتضارب داخل المجتمع ، وهو ما يعني ضرورة توفر عناصر القدرة على التفاوض ، وإدارة الأزمة ، والوعي القانوني ...الخ ، وتستند هذه الدراسة على أن الديموقراطية تعتمد في ممارستها على ثقافة السلام (دفاعا وهجوما)، ومن ثم تطرح نقطة البدء (المشروعة) التي ترتكز عليها معطيات الخطاب التشريعي للنظام الحاكم ، ليس بغرض تأكيده ؛ بل لتجاوزه ؛ وصولا إلى رؤية أكثر رحابة ، يمكن الانطلاق منها نحو المستقبل .
تكافؤ الفرص:  
ينص الدستور المصري لعام 1971م على أن الأساس الاقتصادي لجمهورية مصر العربية هو الكفاية والعدل ، بما يحول دون الاستغلال ؛ ويهدف إلى تذويب الفوارق في الدخول بين (الطبقات) .... إلى آخر المادة الرابعة من الدستور المصري ، وتبعا لهذا ينص الدستور في المادة (18) على أن التعليم حق تكفله الدولة ؛ ويعتبر (التعليم) إلزاميا في المرحلة الابتدائية ، وتعمل الدولة على مد الإلزام إلى مراحل أخرى ، وهو ما حدث على المستوى التطبيقي إذ شمل الإلزام المرحلة الإعدادية ، أما المادة (20) فتؤكد على أن التعليم مجاني في مؤسسات الدولة التعليمية في كل مراحل التعليم ، كما تؤكد المادة (8) من الدستورعلى مبدأ تكافؤ الفرص لجميع المواطنين .
والمتابع لنظام التعليم في مصر يمكنه من الوهلة الأولى أن يعاين أوجه القصور المتعددة التي يعاني منها (وفقا لمعايير الدولة التي وضعتها في الدستور القائم) والتي تتمثل في :
تعدد نظم التعليم :
·         التعليم الحكومي : الذي توفره الدولة من خلال مدارسها.
·         التعليم الخاص : ويشتمل على مجموعة متنوعة من المدارس منها :
-        مدارس اللغة العربية : وهي تماثل مدارس الدولة فيما عدا كونها بمصروفات .
-        مدارس اللغات : وهي متنوعة ، وتقوم بتدريس المناهج بلغة أجنبية ، فيما عدا اللغة العربية والدين والتاريخ .
-        مدارس أجنبية : وهي تدرس مناهج أجنبية ، وفقا لنظام دولة أجنبية ، منهج بريطاني ؛ أمريكي ...الخ .
·         التعليم الديني: وهو تعليم يجمع بين عناصر المنهج التعليمي الحكومي ؛ بالإضافة إلى منهج تعليم ديني ، يخضع في جميع مراحله لمؤسسة الأزهر.
إتاحة فرص الالتحاق:
على الرغم من أن قانون التعليم رقم 139لسنة1981، تنص المادة (15) منه على التزام الدولة بتوفير التعليم الأساسي لكل طفل يبلغ من العمر ست سنوات ، وعلى الرغم من تأكيد الدولة في أكثر من تقرير، على استيعاب المدارس لما يقرب من 99% من الأطفال في سن الإلزام ؛ إلا أن هناك صعوبات عديدة تواجه الأطفال وأولياء أمورهم فيما يتعلق بالقدرة على الاستمرار (من كلا الطرفين) نظرا لارتفاع تكاليف التعليم على الغالبية العظمى من المواطنين ، والمشكلات التي تعاني منها المدارس الحكومية مثل ، ازدحام الفصول ، وتعدد الفترات في المدارس ، وضعف العائد من التعليم ، وعدم ملاءمة نوعية التعليم لقطاعات كبيرة من الأطفال ...الخ ، وهو ما يؤدي في نهاية الأمر إلى تزايد عدد الأطفال المتسربين من التعليم ، وبالتالي تعرضهم لعديد من المشكلات مثل  عمالة الأطفال ، أطفال الشوارع ، الأطفال الجانحين ...الخ  ، وجميعها من الظواهر السلبية التي انتشرت في الواقع المصري في الآونة الأخيرة.
مطالب ملحة:
ولكفالة الحق في التعليم كما تنص عليه القوانين ، ولضمان مبدأ عدم التمييز بين المواطنين (بوصفه مبدأ أصيل لكفالة مجتمع ديموقراطي) ، وإتاحة فرصا متساوية فيما بينهم لضمان تنمية قدراتهم ومهاراتهم ، بالأسلوب الذي يضمن لهم فرصا متساوية في الحياة الكريمة ؛ ينبغي عند الحديث عن كفالة حق ما ؛ اتاحته من ناحية ؛ وضمان استمراريته من ناحية أخرى ، وهو الأمر الذي تنفيه أوجه القصور المتعددة التي يواجهها نظام التعليم في مصر ؛ والتي يأتي في مقدمتها إرتفاع تكلفة التعليم ، كما أن تعدد أنظمة التعليم يخل بمبدأ عدم التمييز ، وضرورة تكافؤ الفرص ، وضرورة تنمية الطفل إلى أقصى حد ممكن ، وجميعها من الأمور التي تتنافى مع الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل ، وهو ما يعني ضرورة قيام الدولة ومؤسساتها المسئولة بعدد من

الإجراءات يأتي في مقدمتها :
-  أن يتلقى الأطفال (في كافة أنواع المدارس) نفس المستوى من التعليم ، بما في ذلك التماثل في الأبنية المدرسية ، والوسائل والأدوات التعليمية ، ومستوى التدريس ، والخدمات الموازية.
-    تنوع المناهج لتتفق مع القدرات المتنوعة ، وبيئة الأطفال ومجتمعهم المحلي ، دون أن يؤدي هذا إلى انخفاض مستوى التعليم عند فئة من التلاميذ.
-     توفير آليات مؤسسية بديلة ؛ لمن لم يتمكن من متابعة العملية التعليمية لأسباب فردية أو اجتماعية ، وأن يتم هذا في إطار منظومة التعليم العامة .
فإذا كانت الديموقراطية كنظام سياسي ، تتطلب المساواة بين جميع أفراد المجتمع ، فليس أقل من المطالبة بهذا الحق في قضية من أهم القضايا الاجتماعية ؛ وهي التعليم ، فضلا عن أنه يتيح فرصا أفضل للحياة لا للفرد فحسب بل ولمجتمعه بصفة عامة.

لتعليم: البعد التطبيقي ...  
 إن الواقع الثقافى فى مصر ملئ بعوامل التردى ؛ التى لا يمكنها إلا أن تنتج ذلك الإنسان المتسم بالجمود ،  والتسلط ، والخوف ، ففى مجتمعنا نجد أن قيمة الفرد ومكانته متحدتان فى المقام الأول بعوامل مثل السن والنوع الاجتماعي والعائلة ..الخ ، وليس بما يسهم به من نشاط ، أو بما يتحمله ، من مسؤوليات ، مما يؤيد بناء شخصيات جامدة ، متسلطة ، ولا يساعد على تدعيم صفات مثل الانطلاق ، والتحرر ، والعمل الإيجابي المنتج ، وهكذا يسود الاتجاه التسلطى فى عملية التنشئة ، وليس ذلك ببعيد عن المجتمع ونظامه الحاكم ، فالآباء أنفسهم يرزحون تحت عبء التسلطية كقيمة اجتماعية/ثقافية ، تمتد إلى أبعد من الأسرة لتشمل الحياة الاجتماعية والسياسية ووسائل الإعلام وغيرها من الجوانب الأخرى للثقافة بوجه عام.
مضمون التعليم:
إن عملية التعليم ليست ببعيدة عن هذا التردى الذى يرزح تحته الواقع الثقافى والاجتماعي المصري ؛ إذ نراها  توجه جهودها لإقامة هذه العملية على أساس من التلقين ،  والنقل والتكرار ، والتقليد ، مما أدى إلى قتل روح الابتكار لدى التلاميذ ، وتحولهم إلى نوع سيئ من المواطنين ، ذلك النوع الذى لا يصلح إلا لكى يؤمر فيطيع ، أو توضع له الخطط فينفذ ، لأنه يعيش وهو يفكر على فتات الآخرين ، فكان ما كان من إعاقة عملية التقدم المنشود .
 فالتعليم بوصفه أحد عناصر تنشئة الطفل ، لا يمكن ربطه بالسوق الاقتصادي فحسب ، بحيث  تصبح هذه المهمة هى مهمته الوحيدة الخالدة ، إذ لو كان الأمر كذلك ، فلصالح من إنتاج مثل هذه الآلات البشرية ؟‍‍‍‍! فمهمة التعليم يجب أن تهدف فى المقام الأول إلى تنشئة مواطن قادر على المساهمة الفعالة فى تطوير وتقدم مجتمعة ، تنشئة إنسان قادر على أن يمارس إنسانيته بكافة أبعادها ، وأن يتواصل مع الآخر ، قادر على أن ينتج أسباب رفاهيته ؛ من خلال وعيه بذاته بوصفه عضواً فى مجتمع تتسع دوائره في النهاية لتشمل الانسانية كافة.

ولكن .. كيف يمكن تنشئة مواطن حر ، قادر على ممارسة الديموقراطية فى ظل:
-        منظومة تربوية/ثقافية لا تفى بأقل احتياجات الإنسان .
-         فصول مكتظة بالتلاميذ .
-        مقررات دراسية تعتمد على الحشو .
-         منظومة تعليمية تعتمد على التلقى السلبى .
-         وسائل إعلام لا تقدم عادة سوى السطحى والمكرر والمستورد .
-         بنية ثقافية زاخرة بعناصر القهر على اختلاف مصادره وألوانه.
فواقع الطفل المصري واقع مهترئ ، والطفل يعاني من ذلك على العديد من الأصعدة ، فنجده بحيويته يسعى إلى الانطلاق نحو المستقبل ، بينما القائمون على تنشئته يجذبونه إلى الماضي ، ويمنعونه من التقدم نحو المستقبل  وهو ما يكشف بوضوح الحظر الذي يفرضه أسلوب التنشئة ، ونظام التعليم على المستقبل ، وعلى مفاهيمه ..  ضرورة التطور ، وحتمية التغير ...الخ ، لصالح الحاضر الثابت ، والمستقر ، و"اللي نعرفه أحسن من اللي مانعرفوش" ، وهكذا تصبح التنشئة تكرارا للماضي ، ويصبح الأطفال نسخا مكررة وباهتة ؛ وظلالا (بلا أية ملامح إنسانية) للآخرين .

ظل المطر .. التعلم بالاجترار:
 إن منظومة المعارف والمهارات التي تهدف المدرسة ـ بوصفها الوسيط في العملية التعليمية ـ إلى توصيلها، هي تلك المعارف التي أنتجها الماضي ، والتي اختبر المجتمع قدرتها من خلال الخبرات التي حدثت في الماضي ، ويقوم القائمون على العملية التعليمية في المدرسة ( معلمون ـ أخصائيون ـ إداريون ) بنقل هذا الإرث المعرفي للأطفال .
 أما منظومة القيم فإنها تتكون كذلك من المعايير السلوكية التي تكونت في الماضي، ويصبح على المدرسة بناء عادات السلوك لدى الأطفال وفقا لها ، فعن طريق المدرسة يتم الاتصال بين علم الماضي وحكمته وبين التلاميذ ، ومن خلال التنظيم المدرسي تفرض قواعد السلوك عليهم ـ بوصف المدرسة من أهم مؤسسات الضبط الاجتماعي ـ ، فإذا كان الهدف الأساسي للمؤسسة التعليمية هو تأهيل الأطفال لتحمل مسئولية المجتمع في المستقبل ، وإذا كانت مجموعة المعارف والمهارات والقيم الواجب تعلمها  والمتضمنة في المناهج والمقررات التعليمية المؤدية لهذا الطريق ، هي تلك التي انحدرت من الماضي ، يصبح من الواجب على التلاميذ تقبلها واحترام مكوناتها كما وصلت إليهم ، ويصبح موقفهم من معلميهم هو موقف التقبل والطاعة .
 إن جل الخبرات التي يتعلمها الأطفال هي خبرات غير حاضرة ، خبرات حدثت على الجانب الآخر ، تماما مثلما يحدث مع الأمطار والجبل ، فالمطر عادة ما يسقط على جانب واحد من الجبل ، أما الجانب الآخر فيقع في ظل المطر ، وبقدر ما يكون الجانب الأول ممتلئ بالحياة والحيوية ، يكون الجانب الآخر جدبا .
يحيا الأطفال إذن خبرات ليست ملكهم ، ويواجهون مشكلات لا تعنيهم ، ويتعلمون مهارات ومعارف لا تنتمي إلى الواقع الذي يحيون، وتقدم إليهم جميعها بوصفها الوسيلة الوحيدة للنجاح والتفوق ، ومن ثم يتنافس جميع التلاميذ على تحصيل هذه المعارف، واكتساب تلك المهارات، والظهور بمظهر الحافظين لتلك القواعد السلوكية ، ويتنافسون من أجل التفوق ؛ للحصول على المهن المتميزة والوظائف العليا (قليلة العدد) ، أما الذين لا يتمكنون من تحصيل واكتساب تلك المعارف والمهارات والقيم فيتم إقصائهم خارج المنظومة ، من خلال نظام تقويمي صارم ، لا يسمح بالتواجد لغير القادرين على التحصيل (الحفظ) والتعلم ، مثلما لا يسمح بالتواجد للمتمردين وغير القادرين على التكيف.
يصبح المنتج النهائي من هذه العملية في صورته المثالية هو ذلك  الشخص القادر على التكيف مع الوضع الاجتماعي السائد ، وليس القادر على تغييره وتطويره ؛ بما يتناسب والشروط الاجتماعية الموضوعية والذاتية الطارئة على المجتمع ، الشخص القادر على إطاعة وتنفيذ القرارات المطلوبة والصادرة إليه ، وليس القادر على اتخاذ القرارات التى تناسب المواقف الجديدة والطارئة ، الشخص القادر على تذكر الخبرات الماضية التي تبدو متشابهة ومن ثم إعادة إنتاجها ، وليس القادر على مواجهة خبرات جديدة حاضرة يحياها ويتعامل معها بأفاق مفتوحة ، وعقل مرن قادر على استيعابها والتفاعل مع مفرداتها دون خوف يقيده أو انبهار يجرفه.
 تقوم المدرسة بإنتاج أفراد قادرة على التعايش مع حياة سابقة ، بشروطها الموضوعية ، وظروفها المادية، وخبراتها الحياتية ، بدعوى إعادة إنتاج المجتمع ، وضرورة تكيف أعضائه (الجدد) مع معطياته ، فتشبع أفرادها بالثقافة المسيطرة ، وتدخلهم في نسيج النظام الاجتماعي السائد ، فيصبحون أكثر تقبلا لمعطياته ، ويعيشون وفقا لقواعده ... فالمدرسة بوصفها الجزء المعلن من المؤسسة التعليمية تعيش وتقدم (ثقافة الاجترار) ، وأعضاؤها يحيون على الجانب غير الممطر من الجبل ، يحيون في ظل المطر .

فشل ..أم انهيار !!
 على مدار العقود الثلاثة الأخيرة ؛ تشهد منظومة التعليم تراجعا على كافة المستويات ، في ذات الوقت الذي تشهد فيه عدد من محاولات التطوير ـالتي مازالت مستمرة ـ ، وربما يرى كثيرون من خبراء التربية والتعليم في مصر أن مشكلات التعليم واضحة ومن ثم فعلاجها يجب أن يتسم بذات الوضوح ، إلا أن محاولات العلاج والتطوير التي حدثت تتسم جميعها بالعشوائية ، والشكلية ، والصورية ؛ حيث انصبت جهود الاصلاح في تعديل عدد سنوات التعليم الابتدائي من ست سنوات إلى خمس سنوات ، ثم العدول عن هذا ؛ وإعلان عودة السنة السادسة ، وفي ( الثانوية العامة ) كانت محاولات التعديل تسير في نفس المسار ، ربط سنوات التعليم الثلاث في إطار (المجموع الكلي) حيث انقسمت (الثانوية العامة) إلى مرحلتين ، وهناك توقعات حول ربط السنوات الثلاث قي هذا السياق ، وهو موضوع يرتبط في صميمه بالبعد الشكلي.
أما من ناحية المضمون فلقد دخل على المقررات الدراسية حزمة من التعديلات الصورية مثل : إدخال الحاسب الآلي في المدارس ، تغيير في بعض المقررات الدراسية بغرض (تحديثها) بحيث تصبح مواكبة للتطورت العلمية المتلاحقة ، وهي محاولات تبدو في مظهرها مؤثرة وصائبة ، ولكنها لم تؤت أكلها لأسباب موضوعية أهمها : أن منهجية تعاطي عملية التعليم لم تختلف ، فمازال التلقين هو الأسلوب السائد ، فالمدرس لا ينتظر من التلاميذ سوى أن يجلسوا هادئين (صامتين) حتى يستقبلوا ما يمليه عليهم من معلومات وتعليمات . ومازال التحصيل (الحفظ) النظري أهم من الممارسة العملية حيث يوجه القائمون على العملية التعليمية (جميعهم) جل اهتمامهم للمادة الدراسية على نحو يجعلهم يهملون ميول الأطفال وقدراتهم والفروق الفردية فيما بينهم ، فأصبح اتقان المادة الدراسية غاية في ذاته دون اهتمام بحجم استفادة الأطفال . ومازال عرض المعلومات (التسميع) في التقويم النهائي ، أهم من أسلوب التفكير ، وغدت وظيفة المقررات الدراسية من وجهة نظر المدرس والتلميذ هي النجاح في الامتحان والانتقال إلى المستوى الدراسي الأعلى ، فقيمة التلميذ تتحدد وفقا لحجم المعلومات التي يحفظها ويتمكن من (استرجاعها) عند الامتحان ، والنتيجة النهائية لعمليات التطوير المستمرة هي مزيد من التعقيدات ؛ ومزيد من الأحمال الثقيلة تلقى على عاتق الأطفال دون معرفة منهم لأسبابها . والمحصلة النهائية لكل ما سبق هو التكريس لمفاهيم سلبية حول دور التعليم أهمها أن يصبح إتقان المقرر الدراسي ، ومن ثم النجاح في (الامتحان) هو الهدف الأسمى لدى التلميذ والمدرس والأسرة ، فانتشرت الدروس الخصوصية ، وتهاوت قيمة التعليم ، وضعف العائد النهائي منه .
ويضع هذا الطرح أهداف التعليم تحت المحك ، فإذا كان أهم أهداف التعليم على الإطلاق هو دعم المجتمع بمجموعة التكنوقراط والبيروقراط ... الخ التي توفر احتياجات سوق العمل ( وهو ما نناهضه ) ؛ فإن منظومة التعليم قد فشلت في تحقيق هذا الهدف ، والنتيجة مزيد من البطالة . أما هدف التعليم في تهيئة الطفل وتأهيله للتكيف مع معطيات المجتمع ـ بوصف المدرسة من أهم مؤسسات الضبط الاجتماعي ـ ؛ فإن الفشل في تحقيق هذا الهدف أكثر وأعمق في التأثير ، يشهد على ذلك حجم العنف المنتشر في مدارسنا ، وهو عنف غير موجه ، عنف يمارسه الأطراف جميعها في مواجهة بعضهم البعض ؛ حيث يفرز المناخ التعليمي نوع من العلاقات التي تتسم بالعنف المتبادل ، وهي سمة أصبحت عامة داخل مؤسساتنا التربوية ، إذ تؤكد عديد من الدراسات والبحوث على هذا التحول الكبير الذي طرأ على المؤسسات التربوية لتصبح مسرحا للعنف المتبادل ، وغدت ثقافة العنف هي الثقافة السائدة والمسيطرة داخل المجتمع ، بصورة تكاد تمثل ظاهرة مرضية .
 إن فشل منظومة التعليم في مصر في تحقيق أهدافها البسيطة ـ غير الكافية ـ ، وفشل محاولات الإصلاح والتطوير ينعكس في حجم البطالة على مدار السنوات الماضية ، وجيش العاطلين من الخريجين ، بل إن العملية التعليمية قد دعمت بتوجهاتها الحركات المتطرفة ومنحتهم مصدرا لا ينضب من المتطرفين من خريجي الجامعات والمعاهد المتوسطة ، المعدين سلفا (داخل المدرسة) لقبول مثل هذه الأفكار ، نتيجة لتنشئتهم على قيم السمع والطاعة ، والرأي الواحد الصائب ، وافتقادهم مهارات النقد والتفكير ، وافتقادهم القدرة على اتخاذ القرارات ، والثقة في النفس ، وفهم الذات وقبول الآخر ، وتقبل الاختلاف ، واتسامهم بالاعتمادية ، وهي سمات جعلتهم هدفا سهل المنال لدعاة التكفير والجهاد والأصولية .    

الديموقراطية والتنشئة والمستقبل ..
 لعل الأزمة الاجتماعية والسياسية الراهنة ؛ تجعل مشاركة المواطن المصري ضربا من الخيال ، وربما يكون للواقع الاقتصادي المتردي أثر فاعل في تلك الحالة من اللامبالاة  التي يعيشها المجتمع المصري منذ فترة ، إذ ينتفي معها الفعل الجماعي ، وتنحسر موجات التطور ، وتسود ثقافة الصمت ، فلا يغدو هنالك مجالا لديموقراطية ، وإن لزم الأمر ( تحت ضغوط ما ! ) تصبح ديموقراطية زائفة ، حيث ينتفي فيها الفعل الاجتماعي الإيجابي والحر ، وهو الأمر الذي ينبغي أن يشغل عقل وفكر كل الراغبين في حياة أفضل لهذا المجتمع على كافة أصعدته ، سيلسيا ، واقتصاديا ، واجتماعيا...الخ .
 الديموقراطية والمشاركة :
   يكفل الدستورالمصري كافة الحقوق (الشكلية) التي من شأنها توفير المناخ العام المناسب للمشاركة ، حيث ينص على مجموعة من المبادئ العامة التي تحمي المواطن وخصوصيته ، وتمنحه فرصا كبيرة للمشاركة والتعبير عن آرائه ، ومنها :
-        منع انتهاك الحياة الخاصة ، حرمة المسكن ، المادة (44) .
-         سرية المراسلات ، المادة (45) .
-        حرية العقيدة ، وممارسة شعائره الدينية . المادة (46) .
-        حرية التعبير عن الرأي . ونشره . المادة (47) ، (48) .
-        حرية الاجتماع السلمي دون اخطار مسبق . المادة (54) .
-        حرية تنظيم الاجتماعات العامة والمواكب . المادة (55) .
     وتمثل هذه المواد جميعها مقومات أساسية لتفعيل مشاركة المواطن المصري على كافة الأصعدة ، غير أن هناك عديد من المعوقات التي أدت إلى ضعف عملية المشاركة في المجتمع المصري (إلى جانب النظام السياسي) منها :
-        الأنماط التقليدية التسلطية في التنشئة . والتي تؤدي إلى ثقافة الخضوع واللامبالاة .
-        الاعتماد على مبدأ التلقين في العملية التعليمية . وهو في العادة أسلوب مثالى لأي نظام سياسي يرغب في  الحفاظ على الأوضاع الراهنة .
-        النمطية في التنشئة (خاصة التعليم) ، وعدم مراعاة الفروق الفردية بين الأفراد . وهو الأمر الذي من شأنه أن يحد من تنمية الإبداع ، والابتكار ، ويسهم في تنشئة أجيال تقليدية غير واعية ، ولا تمتلك القدرة على المبادرة  ، وتتسم بالجمود والاتكالية.

 مضمون التنشئة: الثقافة ...
 تمثل الثقافة عنصراً رئيسياً في تنمية الإنسان ، وجزءاً جوهرياً في حياة الفرد والمجتمع ، وفقاً لمفهومها العام الذي يعنى : ذلك النسيج الكلى المعقد من الأفكار و المعتقدات ، والعادات و التقاليد و الاتجاهات و القيم ، وأساليب التفكير و العمل ، وأنماط السلوك ، وكل ما ينبني عليه من تجديدات وابتكارات ، أو وسائل في حياة الناس ، مما ينشأ في ظله كل عضو من أعضاء المجتمع ،ومما ينحدر إلينا من الماضي ،فنأخذ به كما هو أو نطوره ، في حدود ظروف حياتنا وخبراتنا .
 فالثقافة هي الإنسان بوصفه فاعلاً ومنفعلاً ، إذ يدخل في إطارها العام كل ما أنتج الإنسان من إنتاج مادي أو غير مادي ، سواء كان تراكم خبرات أم ممارسات فكرية ، تصورات من عقائد روحية أم صنع أداة من الأدوات،  أو تقليداً من التقاليد ، فهي تشمل ضمن ما تشمل : أسلوب تربية الأب لابنه ، وأسلوب عمل صانع الفخار لأوان الفخار ، وأسلوب تناول الطعام ، وارتداء الملابس ، واستخدامات اللغة والرموز ، وأسلوب الزواج ودفن الموتى ..الخ 
 وهي إلى جانب كونها سلوكاً بشرياً جماعياً ، ونمط عيش مشترك ، وإلى جانب كونها قيماً روحية وعقائد وتقنيات ، فهي أيضاً بصورة رئيسية علاقة إنسان ببيئته ومحيطه ، وإبداعاته المادية والجمالية وبذاكرته الجماعية، وهى بالإضافة إلى كل ذلك مجموع النشاط الفكري والفني بمعناهما الواسع ، وما يترتب عليهم من أساليب وأشكال من القيم ، يبتكرها الإنسان ليكسب إنسانيته معناها الخاص ، وينظم بها حياته .
 ولعل الثقافة في مجملها تمثل عملية التنشئة بكافة أبعادها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ..الخ ، ولكي يبدو المدى الذي تؤدى العوامل الثقافية في إطاره لتشق لمسالك الحياة مجراها ، يكفى تعقب سلوك فرد واحد خلال يوم واحد ، سواء أكان ذلك اليوم في حياة عامل أم رجل من أرباب المهن أم فنان أم عالم ، فالنتيجة هي اكتشاف الصورة التي يأتي بها السلوك مشبعا من أوله لآخره بعوامل وظروف ثقافية في نشأتها ومضمونها باعتبارها أسلوب عمل ومنهج حياة ، بالإضافة إلى كونها : ذلك الكل المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه أو نقوم بعمله أو نتملكه بوصفنا أعضاء في مجتمع .
 وهكذا تتجلى الثقافة عبر تمثلانها العديدة والمتباينة بوصفها العنصر الفارق بين مجتمع وآخر ، يشكل سماته،  ويسوقه في اتجاه دون آخر ، إنها تجليات الوعي الجمعي ، وإمكانه المتحقق عبر صور إنسانية بالغة الاختلاف ، والتعقيد ، تتخذ أشكالا متعددة في التعبير عن نفسها ، وتحكم صيرورة المجتمع ، وتحدد أنماطه الحياتية ، نمتلكها فتمتلكنا ، نمارسها فتسيطر علينا ، تدفعنا أحيانا إلى الأمام ، وتجرنا أحيانا إلى الوراء ، إنها تجلياتنا الخارجية وقد انفصلت عنا ، وصارت منتجا مستقلا ، لها قوانينها التي تسيرها وتحكمها ، ولها آلياتها التي تتفاعل بها ، وميكانيزماتها التي تمنحها الحياة والاستمرار ، وتعطيها القدرة على استبدال مكوناتها أو إعادة ترتيبها من وقت لآخر ، يعيشها الفرد فتعيش فيه ؛ ولا يستطيع منها فكاكا ، وكأنها أخطبوطا بألف ذراع ، وألف عين ، لأننا جميعا عن قصد ، أو دون قصد ، ساهرين على حمايتها والدفاع عنها ، يرى الفرد ذاته عاجزا في مواجهتها ، بلا حول أو قوة ، لا يستطيع الخلاص من سطوتها ، فيستسلم لها في معظم الأحيان ، ويتحايل عليها في بعضها ، ولكنها تطارده دائما ، في كل فعل يقوم به ، وفي كل سلوك يسلكه .
 وحيث يصبح فعل التعليم فعلا من أجل الحرية ، تظهر القضايا الثقافية في عمق المشهد الاجتماعي ، بوصفها عنصرا فاعلا في أي سيناريو ينطلق بنا نحو المستقبل ، وهو الأمر الذي يعني من ناحية أخرى التطلع نحو الطفل المصري الذي يمتلك مسوغات المستقبل الذي نراهن عليه ، بكل تداعياته ؛ الإيجابي منها والسلبي ، مما يفرض علينا أسئلة ذات دلالة :     
* ما الرؤية التى يجب أن نشكل وفقها ثقافة المستقبل ؟
* ما الضرورة الوجودية التى تحكم أفعالنا تجاه مجتمعنا ؟
 وعليه يمكننا أن نحدد ما الذى يجب أن نقوم به من أداءات إزاء أطفالنا ، وما ينبغى أن نقدم لهم لنتجاوز بها (وبهم) هذا الواقع نحو مستقبل يكاد يمسك بتلابيبنا ، ونسعى لامتلاك ناصيته .

أولاً : مفاهيم أساسية :
1) الأصالة والمعاصرة :
 من الضرورة بمكان لمجتمعنا المعاصر أن يقوم على ما يدعم وجوده ، ويعضد خصوصيته ، بالإضافة إلى ضرورة أن نتوجه إلى الحاضر ومشكلاته بفعل جاد نتعرف فيه على الإيجابى والسلبى ، المقبول والمرفوض ، الثابت والمتغير ، وضرورة أن نتطلع إلى المستقبل ؛ مستوعبين تحدياته ومدركين لكنهها ؛ ومستفيدين من خبراتنا المتراكمة عبر الزمان والمكان ؛ بغرض إحداث تلاق مشروع بين الاتجاه التحديثى وهويتنا الثقافية .
2 ) الوحدة والتنوع :
 لا شك عناصر الوحدة فى ثقافتنا مستمدة من الامتداد التاريخي لمجتمعنا في المكان والزمان ، وتدعم هذه الوحدة حقائق أساسية جديدة فرضتها المتغيرات المحلية العالمية . وفى الوقت نفسه فإن عناصر التعدد واقع لا يمكن رفضه ، قائم بالفعل لا يمكن تجاهله . ومن ثم فإن عناصر الوحدة والتنوع حقيقة واقعة ؛ علينا التعامل معها ، ولكن المهم هو البعد الذى نقدر أن نستوعب منه عناصر التعدد وتأثيرها ، وضمنية الوحدة وضرورتها ؛ وفق خصوصية ثقافية ، وعمومية اجتماعية شاملة .
3) الهوية الثقافية والانفتاح على العالم :
 تؤكد عديد من الشواهد أن الثقافة المصرية قد قامت على أساس متين من الثقافة الأصيلة ، ولكن الشواهد نفسها تدعم انفتاحها على الثقافات الأخرى ، حيث أثرت رصيدها باستيعاب ( والتفاعل مع ) مختلف الثقافات والحضارات ، والاستناد إلى (العقل) والوعى السليم ، يمهد لنا لضرورة تعميق فهم الذات ومن ثم القدرة على التعامل الواعى مع كافة الثقافات الأخرى ؛ بمنطق بعيد كل البعد عن الرفض الضيق أو الانبهار السطحى .
4) الطرح الإيجابى للتراث:
 نحن بحاجة إلى التراث لكى نربط أطفالنا بجذورهم ، ونزرع بذور الأصالة والمناعة الحضارية فيهم ، ونحصنهم ضد محاولات التغريب الثقافى ...الخ ، و الرغبة فى إحياء التراث يجب أن تكون واعية لأن هذا الإحياء يرتكز على أن الماضى دافعا وحافزا للتعامل مع الحاضر ؛ وصناعة المستقبل ، بحيث يصبح الماضى هو النقطة التى يمكن منها تجاوز الحاضر والانطلاق نحو المستقبل .
 ولا شك أن تراثنا ينطوى على الكثير من النجاحات والنماذج الإيجابية فى كافة المجالات العلمية والأدبية والفكرية والبطولية ، والذي يمكن أن تكون قدوة لهم من خلال رؤية متكاملة تهدف إلى نقل الحضارة المصرية ؛ بكافة جوانبها المضيئة ، والشمول والتوازن المدهش الذى إمتازت به حضارتنا بين الروح والمادة ، الفكر الأخلاقى والفكر العلمى والتكنولوجى فى نسيج رائع ومترابط الأوصال.
5) الترويج للتفكير العلمى :
 يعد تنمية التفكير العلمى ، وإطلاق القدرات العقلية والإبداعية لدى الأطفال ، أحد العوامل المؤثرة والإيجابية القادرة على تنشئة جيل قادر على تحمل مسئوليات البناء و التنمية وتحرير المجتمع من التبعية الاقتصادية و الاجتماعية . ومن هنا لا يمكننا الحديث عن مضمون الثقافة دون الالتفات لأهمية الحديث عن الدور الأساسى لإطلاق قدرات الطفل العقلية والإبداعية ، وتنمية قدرته على التفكير العلمى بما يعنى من قدرة على الرؤية الموضوعية للأشياء ، والقدرة على تحليل الأشياء لعناصرها البسيطة بغرض تفسيرها وفهمها ، والقدرة على إعادة تركيبها ، وبالتالى القدرة على النقد ومعرفة المختلف والمتشابه والمتماثل ، وامتلاك المنهج السليم وغيرها من أدوات التفكير العلمى ، إذ يعد هذا أكثر أهمية وثراء من تقديم فيض من المعلومات الجامدة التى تحتاج لتحريكها إلى تسلسل منطقى عقلى قد يكون مفقوداً أو غير متوافر .

ثانياً : المحددات العامة لثقافة المستقبل :
  قد لايكون هناك شئ أكثر أهمية فيما نتوسمه فى المستقبل القريب أو البعيد من هذا الإلحاح الشديد على ضرورة مواجهة هذه المرحلة من تاريخنا بـ(فكر جديد) ..إذ إن علينا فى مواجهة هذا كله أن نستنهض وعياً أصيلاً  يعود بالأشياء إلى أصولها العميقة ، فى الوقت الذى يمتد بها إلى المستقبل واحتمالاته البعيدة ، إدراكاً لأن الوعى الأصيل المعافى هو وحده القادر على أن يسبك معطيات الماضى ورؤى المستقبل فى دائرة فعله الخلاق .
     ومن هنا يصبح لتحديد السمات العامة لثقافة الطفل التى تتأسس وفق رؤى تتطلع إلى المستقبل بما يحمله من متغيرات وتحديات ضرورة قصوى ، استنادا إلى أن تلك السمات المقترحة ستمثل المحددات والأطر العامة للمضامين المختلفة التى يحتويها أى عمل ثقافى يدعم الديموقراطية والحرية في مجتمعنا .
و أظن أن هذه المحددات يمكن إيجازها فى :
1.      إن وسائل التنشئة متعددة ، ولكنها مطالبة جميعها بأن تصب فى مجرى التنمية الشاملة للمجتمع،  وباعتبار الثقافة إحدى المكونات الرئيسية لسياسة إنمائية ذاتية ومستدامة ، تهدف إلى إحداث نقلة نوعية على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ...الخ  ، ومن ثم ضرورة التنسيق مع المجالات الاجتماعية الأخرى فى إطار منهج متكامل ، وعلى أن تراعى كل سياسة – من أجل التنمية – الثقافة بقدر كبير.
2.      لا تستهدف عملية التنشئة ( نقل) الثقافة ، بل الانتقاء الإيجابى لعناصرها المؤثرة وإثرائها ، والانعطاف بالقيم والمعايير والمعانى تحقيقاً لهدف أسمى وهو السعى لتشكيل ثقافة تتوافق وروح العصر ، وتتلاءم مع تطلعات المستقبل ، وتتأسس على ترسيخ وعى أصيل بالذات .
    
وتطرح هذه الرؤية تساؤلا ملحا يتعلق بسمات إنسان المستقبل فى مجتمعنا ، والذى يمثل بدوره طفل اليوم الذى نغرس فيه هذه السمات ونساهم فى تشكيل طبيعته ؛ التي يمكنها أن تسهم بقدر في خلق فضاء من الحرية ، وأظن - دون تجاوز – أن هذه السمات  تتمثل فى :
-        إنسان متفرد ، غير نمطى ، معتز بذاته وبرؤيته الخاصة وباختلافه عن الآخرين .
-        قادرعلى التكيف المتواصل ؛ منفتحاً على متغيرات العالم المتلاحقة ؛ ولديه القدرة على التكيف المستمر والتواصل الدائم والتأثير فيها .
-         ممارس للتفكير النقدى ، يرى المستقبل مفتوحا ، قابلا للتشكل الدائم ، ولديه القدرة على التحليل والتركيب ، وفهم الواقع وفق عناصره المتعددة ، وطرح البدائل والاختيارات .
-         مبدع ، لديه القدرة على الاكتشاف والابتكار ، والمبادرة والفعل ؛ قادر على التعلم الذاتى والمستمر، إذ تتلاحق المعلومات وتتسارع الاكتشافات فى العالم بأسلوب يضطره إلى ضرورة اعتماده على نفسه لملاحقتها ، فى جهد متواصل ، وهو لهذا لديه القدرة على استخدام التقنيات الحديثة من وسائل الاتصال و المعلومات مثل الكمبيوتر والإنترنت وغيرها .
-         لديه القدرة على ممارسة التفكير العلمى السليم .
-         معتز بعقيدته ، محترم لعقائد الآخرين ، قادر على تقبل الاختلاف والتعددية ، وتقبل النقد ، واحترام الرأى الآخر ، وقادر على التعبير عن رأيه .
-        يحترم قيمة العمل ، قادر على العمل ضمن جماعة ، ويمتلك المرونة الفكرية اللازمة لذلك ، ويقدر قيمة الوقت ، ويحترم جهود الآخرين .

 المجتمع المدني : دور ضروري ..
 من الصعوبة بمكان أن نربط عملية التحول الديموقراطي بعامل واحد أيا كانت طبيعته الأولية ، (وهو الأمر الذي لا تدعيه هذه الدراسة) إذ تتعدد العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ...الخ ، وتتنوع تأثيراتها ، بالطريقة التي تسمح بتنامي التوجهات الديموقراطية ، في فضاء اجتماعي يدعمها .
 وحيث ينتفي الفعل الديموقراطي(الحر) المرتكزعلى إجراءات سياسية فوقية ـ بالإضافة إلى صعوبة الرهان على السلطةـ ، وحيث تمثل الديموقراطية في مضمونها نظاما اجتماعيا يتأسس على بنية ثقافية تحتية تسانده ؛ تمثل التنشئة أحد العوامل التي تدعم التحول الديموقراطي في مصر ، وهو ما يفرض على منظمات المجتمع المدني مجموعة من التحديات التي تتعلق بطبيعة عملها من ناحية ، وبطبيعة الدور الذي يجب أن تؤديه من ناحية أخرى ، تحتاج في مجملها إلى ابتكار آليات عمل غير تقليدية تمكنها من صياغة ونشر (خطاب) قادر على الانتشار والإقناع (وكسب مؤيدين) على المستوى المجتمعي ، وقادر على التغيير وتحقيق مطالبه على المستوى السياسي ، الأمر الذي يعني ؛ الدخول في مواجهة (مزدوجة) مباشرة ؛ مع الثقافة الاجتماعية السائدة ؛ ومع الثقافة السياسية الحاكمة ، وعلى أن يمتاز هذا الخطاب بتوجهات وإجراءات واضحة ومحددة في سياق إعادة هيكلة المنظومة التعليمية الرسمية ، من ناحية الشكل والمضمون ، بوصفها أحد الأسباب المسئولة عن كثير من المشكلات (الأعراض) التي تعتري الواقع الاجتماعي المصري . على أن يكون هذا بوصفه جزءا من منظومة عملها ، وعنصرا ضمن أهدافها ، وإن كان يحتل مكانة خاصة ، نظرا لظرفية راهنة تستدعي هذا .







رسالة أحدث
السابق
هذا أخر موضوع
  • تعليقات المدونة
  • تعليقات الفيس بوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Item Reviewed: الديموقراطية .. والتعليم ... رؤية ثقافية ... أحمد عبدالعليم Description: Rating: 5 Reviewed By: 3aleem
Scroll to Top